نشر في شروحات العهد الجديد.

مقدمة العهد الجديد

يَسوعُ المَسِيح هو المَوضُوعُ المِحوَرِيُّ لِكُلٍّ مِنَ العَهدَين القَدِيمِ والجَديد.

مَوضُوعُ العَهدِ القدِيم هو التَّحضِيرُ لِلخَلاصِ بِيَسوع المَسيح إبن الله؛ ومَوضُوعُ العَهدِ الجَدِيد هُو تنفيذُ هَذا الخَلاص.

يَتكلَّمُ العَهدُ القدِيمُ عَن نَامُوس قَدَاسَةِ الله في وصايا وفرئض وأحكام، بينما يتكلَّمُ العهدُ الجَدِيدُ عَن نِعمَة قَدَاسَةِ الله محبَّةِ ومسامحة.

بما أن اللهُ يَتعَامَلُ مَعَ البَشَرِ مِن خِلالِ مُؤَسَّسَات فقد تعامل فِي العَهدِ القدِيم مع البشر مِن خِلالِ مُؤَسَّسَةٍ جسدية أرضِيَّةٍ هي إسرَائِيل؛ وفِي العَهدِ الجَدِيد يَتَعَامَلُ الرب معنا مِن خِلالِ مُؤَسَّسَةٍ رُوحِيَّةٍ سَمَاوِيَّةٍ هي الكَنِيسَة.

هُنَاكَ جِسرُ عُبُورٍ هَامٌّ نَعبُرُهُ مَعًا مِنَ إسرائيل في العَهدِ القَدِيم إلى الكنيسة في العَهدِ الجَدِيد وإسمُهُ "مَرحَلَة مَا بَينَ العَهدَين": مِن مَلاخِي إلى مَتَّى.

تَركَ العَهدِ القَديم إسرائِيلَ عائدة من السبي إلى أرضِ إسرائيل والهَيكَل مُرَمَّمْ وقد عادت ممارسة العِبادَة والذبائح فيه وأسوار اُورشليم قد اُعيد بناؤها. كان هذا تحضير للمجيء الاول للرب يسوع المسيح. كان الوضع الروحي تعيس وفي ضياع ويأس وفشل.

التاريخ يعيد نفسه إذ انه كما كان وضع إسرائيل قبل السبي كذلك وضع الكنيسة اليوم في آخر الايام في عصر كنيسة لاودكية. آنذاك كان الاسرائيليون ثلاث فئات: (i) الاكثرية شردت عن طريق الحق: "لاَ تَنْظُرُوا لَنَا مُسْتَقِيمَاتٍ. كَلِّمُونَا بِالنَّاعِمَاتِ. انْظُرُوا مُخَادِعَاتٍ" (إش 30: 10)؛ (ii) الاقلية لم تعد تريد السلوك بحسب كلام الرب: "وَهَا أَنْتَ لَهُمْ كَشِعْرِ أَشْوَاق لِجَمِيلِ الصَّوْتِ يُحْسِنُ الْعَزْفَ، فَيَسْمَعُونَ كَلاَمَكَ وَلاَ يَعْمَلُونَ بِهِ" (حز 33: 32)؛ (iii)والبقية الامينة: "16حِينَئِذٍ كَلَّمَ مُتَّقُو الرَّبِّ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ، وَالرَّبُّ أَصْغَى وَسَمِعَ، وَكُتِبَ أَمَامَهُ سِفْرُ تَذْكَرَةٍ لِلَّذِينَ اتَّقُوا الرَّبَّ وَلِلْمُفَكِّرِينَ فِي اسْمِهِ. 17وَيَكُونُونَ لِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَنَا صَانِعٌ خَاصَّةً، وَأُشْفِقُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُشْفِقُ الإِنْسَانُ عَلَى ابْنِهِ الَّذِي يَخْدِمُهُ"  (ملا 3: 16-17)∙ هكذا اليوم في آخر عصر الكنيسة فإن المؤمنين المسيحيين مُصابون بمرض الفتور الروحي: (i) منهم من يقول "انا غني والرب مباركني؛  (ii) ومنهم من ليس عنده حماس روحي بل يعمل الحد الادنى من المطلوب منه فقط؛ (iii) ومنهم من ليس عنده أية بصيرة روحية او رؤية مستقبلية أو أية هدف روحي: "16هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي. 17لأَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ" (رؤ 3: 16-17)∙ لا عجب لان في آخر الايام فإن المؤمنين واضعين المسيح خارج مشاريعهم:"هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ (رؤ 3: 20)∙

وهكذا يقول العهد الجديد أنه عندما جاء يسوع الى منطقة طبرية كان اليهود عائشين في وادي ظل الموت من ناحية روحية. لا رؤى ولا أنباء ولا تعاملات إلهية عجائبية. كانت إسرائيل في وضع ظلمة روحية داكنة الى أن أشرقت السماء بترنيم الملائكة مبشرة بولادة يسوع وقائلة: المجد لله في الاعالي وعلى الارض السلام وبالناس المسرة. عندها أضاء العهد الجديد بولادة الرب يسوع المسيح رب المجد الذي أشرق ضياؤه على على أجمع!

من ناحية تارِيخِية وبعد عودة الأهل السبي حوالي 538 ق.م.، استَمَرَّت هيمنة حُكم الفرس حتى سنة ٣٣٤ ق.م.، حين إحتل الإسكَندر المَقدُونِيّ العالم وسَيطَرَت المملكة الثَّالِثَة في قِوَى مَمالِكِ العالم، أي ألامبراطُوريَّة اليُونانِيَّة.

خلالَ الفَترة الواقِعة بينَ ٣٢٣ ق.م. إلى ١٩٨ ق.م. وفي ظل حُكمِ المُلُوكِ البَطالِسَة في مصر تغرَّبَت أعدادٌ كَبيرَةٌ منَ اليَهُودِ هناك. آنذاك وفي الاسكندرية التي بناها الاسكندر والتي إزدهرت علمياً إبتدأت التَّرجَمَةِ السَّبعِينيَّةِ للعَهدِ القَديم وإنجزت سنة 132ق.م. (الترجمة السبعينية هي إشارة الى الكتبة والعلامة اليهود السبعون الذين ترجموا التوراة من العبري الى اليوناني، لغة العالم الحاضر آنذاك).
في تلكَ الايام كانَت الأراضِي المُقدَّسَة مُقَسَّمَةً إلى خَمسِ مُقاطَعاتٍ، مَألُوفَةً علىَ قُرَّاءِ الأناجيل وهي: (i) الجليل، (ii) السَّامِرَة، (iii) اليَهُوديَّة (وغالِبًا ما كانت تُدعَى هذه المُقاطَعَاتُ الثَّلاث مُجتَمِعَةً باليَهُوديَّة)، (iv) تراخُونِيتس، (v) وبِيريَّة.
بادِئ ذِي بدء، كانَ مَسمُوحًا لليَهُودِ أن يُنَظِّمُوا حياتَهُم الخاصَّة بِقَوانِينَ خاصَّة بهم، في ظِلِّ رَئيسِ كَهَنَةٍ ومَجمَعٍ يَهُوديّ. ثم جاء أنطيُوخُوس الرَّابِع أبِّيفانِيس اليوناني السلوقي الذي هُوَ "القَرن الصَّغير" في (دانيال ٨: ٩)، والذي كان من نسل سلوقس نيكاتور القائد اليوناني الذي كانت سوريا نصيبه عندما قُسمت مملكة الاسكندر المقدوني الى أربعة ممالك إبان وفاته∙ بعد تَدَاخُّلاتٍ مُتَكَرِّرَة منه في اُمور الهَيكَلِ والكَهَنُوت قام أنطيُوخُوس أبِّيفانِيس بِتَنجيسِ الهَيكَل، وبِقَتلِ أعدادٍ كَبيرَةٍ منَ اليهود؛وأسَّسَ عِبادَةً الإله  Jupiterأي كوكب "المشتري" وأيضاً نجَّس مذبح الرب في الهَيكَلِ في أُورشَليم بذَبَحَه عليه خنزيرًا في سنة ١٦٧ ق.م. وأُرغِم الشَّعبُ على أكلِ لَحمِ ذلك الخَنزير؛ ومنع عِبادَةُ الرب في الهَيكَل.

حينئذٍ هَاجت غيرة اليهود على الهيكل فإندلعت ثَورَةَ المَكابِيِّين، التي كانَت واحِدَةً من أحلى بُطُولاتِ صَفحاتِ التَّارِيخ اليهودي. كانَ مَتياسُ المَكابِي كاهِنًا تَقِيًّا جِدًّا وقَوِيَّ الشَّخصِيَّة، فبدَأَ إبنه يَهُوَّذا المكابي الثَّورَةَ المكابية المشهورة؛ وفي سنتين من الزمن نجح يَهُوَّذا إبن متياس هذا في السَّيطَرَةَ على أُورشَليم، وتطَهّيَرَ الهَيكَلَ وإعادَة تجديدَهُ∙ هذا الأمرُ أصبَحَ مُناسَبَةً مُقَدَّسَةً وسُمِّيَ بِعِيدِ التَّجديد وإحتُفِل به يوم 25 كانون الاول عام ١٦٥ ق.م.؛ الذي هو نفس تاريخ عيد ميلاد المسيح الذي جائنا بالتجديد الروحي (مت 19: 28. تي 3: 5). شارك الرب يسوع بهذا العيد في إنجيل يوحنا: 22وَكَانَ عِيدُ التَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَكَانَ شِتَاءٌ. 23وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي الْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ (يو 10: 22-23). لسبب ذلك حوَّر اليهود إسم العيد من "عيد التجديد" الى "عيد الأنوار".
وصلت الامبراطورية الرومانية الى الشرق الاوسط سنة ٦٣ ق.م. وإحتلت أرض سورية وفينيقية وكنعان واِليَهُوديَّةِ وأُورشَليم بقيادة بُومباي القائد العسكري القدير. جُعِلَ أنتِيبَاتِر الآدومي وَكيلَ أعمالِ اليَهُوديَّةِ من قِبَلِ يُوليُوس قَيصَر أول وأقدر قيصر روماني. ثُمَّ تلا أنتِيبَاتر إبنَهُ هيرُودُس، والِيًا على الجَليل. بعدَ اغتِيالِ يوليوس قَيصَر، دَبَّتِ الفَوضَى في اليَهُوديَّةِ، وهرَبَ هيرُودُس إلى رُوما. وهُناك عُيِّنَ عام 40 ق.م. مَلِكًا على اليَهُود.
إثرَ عَودَتِهِ صالَحَ الشَّعبَ اليَهُوديّ بطلاقه من زوجته التي كانت إبنة ملك، وبِزَواجِهِ من هيروديا حفيدة أحد قادة الثورة المكابية. عندما وُلِدَ يسُوع المَسيح، كانَ هِيرُودُس هذا مَلِكًا على اليهودية.

 يَتّسِمُ التَّارِيخُ اليَهُودي أثناءَ الفَترَةِ الطَّويلة من ملاخِي من سنة ∙∙4  ق.م. إلى المَسيح، بالتَّاريخ السِّياسِيّ المُتعَب؛ وهيمنة الظَّواهِرِ الطَّقسِيّة الخارجية وإستخدام ِمَنصِب رَئيسِ الكَهَنة للزعامة والسياسة والهيمنة الاجتماعية.
لَكِنَّ كانت هناك بقية موجُودة أمينة وتَغَذَّي إيمانُ إسرائيل وتحفظ فيها روح حَيّة.

من ناحية ثانية كانت مُشكِلَة أهل السَّبِي المستتين أنهم حُرِمُوا منَ الهَيكَل وبالتالي من المُحافظَة على المِثالِيَّاتِ الرُّوحِيَّة والأخلاقِيَّة التي أعطاهُم إيَّاها الأنبِياءُ الأقدَمُون. نشأت الحاجة الى الحِفاظِ على الإيمانِ النَّبَوِيّ والدين اِليَهُودي، وسطِ اضطِهادٍ خارِجِيّ وانقِسَامَاتٍ داخِليَّةٍ. كان الحلّ هو في بروز فكرة "مَجمَع" الذي لم يَكُنْ جزءًا من التَّرتيبِ الكِتابِيّ لِحياةِ الأُمَّة، وَلكن تَطوَّرَ كَمُؤَسَّسَةٍ مُستَقِلَّة بعدَ زَمَنِ ملاخِي∙ أصبَحَ لليَهُودُ مجمع يلتقون فيه يَومَ السَّبتِ للصَّلاة؛ واجتِماعاتٌ كَهَذِهِ أُتِاحَت فُرصَةٌ لِقِراءَةِ الكُتُبِ المُقَدَّسَة، وترتيب النِّظامِ الديني والمَسلَكِيّ الاجتماعي، مع شَيءٍ منَ السُّلطة لِكَبحِ الفَوضَى؛ ومعالجة شوؤن وشجون اليهود في السبي.

أثناءَ تلكَ الفَترَةِ نشأَت طائِفَتانِ كَبيرَتانِ مَعرُوفَتانِ في الأناجيل بالفَرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقِيِّين. الميزة البارزة هي ان الفريسيون كانوا يؤمنون بالعنصر العجائبي في التوراة بينما الصدوقيون لم يصدقوا إن لم يروا بأعينهم ويلمسوا بأيديهم. أمَّا الهِيرُودِيُّونَ فكَانُوا حِزبًا سِياسِيًّا أكثَر منهُم طائِفَةً دِينيَّة.

بينَ هؤلاء النَّاس اليَهُود الخاضَعِينَ لِحُكمِ رُوما في ظل مَلِكٍ مُتَسَلِّطٍ أدُومِيّ، وبين المُمَزَّقِينَ بِمُماحَكاتٍ دِينيَّةٍ مَريرَة، وبين المُحافِظينَ على تَقليدٍ دِينِيٍّ طقسي مكون من قشور خارجية، وبين أقلية قليلة مؤمنة منتظرة فداء الرب الإله، وفي ملئ الزمان جاء يسُوعُ المَسيحُ إبنُ الله، مُخَلِّصُ العالم. عنه قالَ بُولُس الرَّسُول: "ولكِنْ لمَّا جاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابنَهُ مَولودًا من إمرَأةٍ، مَولودًا تحْتَ النَّامُوسِ"- أي العَهد القَدِيم"(غلا ٤: ٤).

السَّمَاءُ تُحَضِّرُ لِزَمَنِ العَهدِ الجَدِيد

يَبدَأُ العَهدُ الجَدِيدُ معَ رُومَا القوَّة العُظمَى التي كانَت تُسَيطِرُ على العَالمِ كُلِّه. لكنِ في قريةٍ صَغِيرَةٍ في بيت لَحم يهُوَّذا فِي أرض كَنعَان، وُلِد يسوع المسيح الذي سَيُخلصُ العَالمَ من الخطايا.
لقد حَضَّرَ اللهُ العَالمَ لِمَجِئِ المَسِيحِ بِطُرُقٍ عَجِيبَة؛ ولقد سَاهَمَت عِدَّةُ عَناصِر في هذا التحضير

١-أُمَّةُ إسرَائِيل: التَّحضيرُ لِمَجئِ المَسِيح هُوَ قِصَّةُ العَهدِ القَدِيم؛ فقدِ إختارَ الرَّبُّ الإلَهُ شَعبَ إسرَائِيل مِن بَينِ شُعُوبِ الأرضِ لِيَكُونُوا شعبًا خَاصًّا له، مَملَكَةَ كَهَنَةٍ، أُمَّةً مُقَدَّسَةً (خر١: ٥-٦) ليشهدوا ليهوه الإله الحي خالق السموات والارض وسط عالم عبادة أوثان.  مِنهُم جاء المَسِيحُ حَسَبَ الجَسَد (رو ٩: ٥)"ومِنهُم المَسِيحُ حَسَبَ الجَسَد". بِحَسَبِ هَذِه الخُطَّة الإلَهِيَّة، وبوُعودِ الرَّبِّ كانوا مُؤتَمَنِينَ على أقوَالِ اللهِ (رو ٣: ٢) التِي هِيَ العَهد القَدِيم. كَانُوا قناةَ مَمَرِّ لوصول أو تجسد المسيح (تك ١٢: ٣ . لذلك يَتكلَّمُ العَهدُ القَدِيمُ كَثِيراً عن نُبُؤَاتٍ المَجيءِ المُنتظَر لِلمَسيحِ، بمجيئيه الأوَّل والثَّانِي، أي عَن آلامِهِ ومَجدِهِ.

كانتْ هَذِهِ النُّبُؤاتُ ليسَت فقط كثيرةً بَل وأيضاً دَقِيقَةً بِتفَاصِيلِهَا عَن سُلالَةِ المَسِيح، ومَكانِ وِلادَتِهِ، وظُرُوفِ زَمَنِ وِلادَتِهِ وحَيَاتِهِ ومَوتِهِ وقِيَامَتِهِ وعَودَتِهِ ثانِيَةً الى الأرض.

الرَّبَّ أرجَعَ مِنَ السَّبِي بَقِيَّةً أَمِينَةً الى أرضِ المِيعَاد للتَّحضِيرِ لوُصُولِ المَسِيح. نَرَى عَجِبَ العَمَلِ الإلَهِيِّ أنَّهُ بَعدَ أربَع مِئَةِ سَنَةٍ مِن إنتِهَاءِ الإعلانَاتِ وبالتَّالِي كِتَاباتِ العَهدِ القدِيم٬ وفي خِضَمِّ جَوِّ التديُّنِ النَّامُوسِيِّ والفرِّيسِيِّ الخَارجِيّ المُنافِق، كانَت هُناك رُوحُ إنتِظارٍ مَسِيحِيَّةٍ في الجَوِّ كما كانَت هُناكَ بَقِيَّةٌ مُخْلِصَةٌ تَنتَظِرُ المَسِيح أمثال زكريا وسمعان وحنة.

٢-اللُّغةُ اليُونَانِيَّة: مِنَ المُهمِّ جِدًّا أنَّهُ عِندما جاءَ المَسيحُ لِيُخَلِّصَ الجِنسَ البَشَرِيَّ وليُرسِلَ تلامِيذَهُ بالبِشَارَةِ إلى أقصَى الأرض (مت ٢٨: ١٩- ∙٢)؛ كانت هُناكَ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ سَائِدَةً في العَالم كُلِّه. كانَتْ تِلكَ نَتِيجَة طُمُوحَاتِ وفُتُوحَاتِ الإسكَندَر المقدوني ذو القرنَين الذِي قَبلَ حوالي أكثر من ∙∙٣ سنة مِن وِلادَةِ يَسُوع، إجتاحَ دُوَلَ العَالَمِ المعروف كله آنذَاك، رَاغِبًا في إنشَاءِ نِظَامٍ كَونِيٍّ واحِدٍ ولُغَةٍ كَونِيَّةٍ وَاحِدَة. وهَذا مَا فَعَلَهُ! فلقد جَعَلَ مِنَ اللُّغَةِ اليُونَانِيَّةِ لُغَةَ العَالَمِ، ومنَ الحَضَارَةِ اليُونَانِيَّةِ نموذجَ الفِكرِ والحَياةِ لِحَضَارَاتِ العَالم. كانت مَملكةُ الإسكَندَرِ الكَبير قَصِيرةَ العُمرِ لكِنَّ تأثِيرَ اللُّغَةِ اليُونَانِيَّةِ دَامَ طَويلاً على العَالَم.
كانَ هذا بِمَثابَةِ تَحضِيرٍ إلهِيٍّ لإيصَالِ رِسَالَةٍ مُوَحَّدَةٍ واضِحَةٍ لِكُلِّ العَالَمِ عَنِ الخَلاصِ بِيَسُوع. بالتالي كُتِبَت أسفارُ العَهدِ الجَدِيدِ باللُّغَةِ اليُونَانيَّة. لم تُكتَبْ هذه الأسفارُ باللُّغَةِ العِبريَّةِ أو الآرَامِيَّةِ معَ أنَّ كُتًابَ العَهدِ الجَدِيدِ كانُوا كُلُّهُم يَهُودًا، ما عَدَا لوقا الذي كانَ يُونَانيًّا. كانت اللغَةُ اليونانِيَّةُ قد أصبَحَتْ لُغَةَ كُلِّ النَّاسِ فِي زَمَنِ تَجَسُّدِ المَسِيح؛ مما سهَّل نشر الانجيل وخلاص النفوس.

٣-الرُّومَان: لكنَّ الرَّبَّ الإلهَ لم يَكُنْ قد انتَهَى بَعدُ مِن تَحضِيرِ العالمِ لِمَجِيءِ المَسِيح. عندما وُلِدَ يَسُوعُ في بيتَ لَحم يَهُوَّذا، كانتْ أرضُ كنعَان كُلُّها خَاضِعَةً لِحُكمِ الرُّومان مِن سُوريا (لو٢: ٢)؛ وقد كانتْ رُومَا شَغُوفَةً بالنِّظامِ والتَّرتِيب. كَانَتِ الأمبراطُورِيَّةُ الرُّومَانيَّةُ شَاسِعَة الأطراف، فأشرَفَ اُغسطُس قَيصَر، أوَّلُ وأعظَمُ قَيصَرٍ رُومَانِيٍّ، على بِنَاء شَبَكَةِ طُرُقَاتٍ، تحتَ حِمَايَةِ جَيشِهِ، تَصِلُ كُلَّ أرجَاءِ الأمبرَاطُورِيَّةِ، وبالتَّالِي العَالَمَ المَعرُوفَ كُلَّهُ، بَعضَهُ بِالبَعضِ. سهَّلَ ذَلِكَ كَثِيراً على الناسِ والتُّجَّارِ السَّفَرَ والتَّنَقُّلَ بأمَانٍ فِي كُلِّ العَالم. في أيَّامِهِ بَرَزَ ما يُسَمَّى "السَّلام الرُّومَانِيّ" الذِي دَامَ مِن سنة ٢٧ ق.م. إلى سَنة ∙١٨ ميلاديَّة. وهكذا فإنَّ الرَّبَّ الإلهَ إستخدَمَ الحُكمَ الرُّومانِيَّ ليُحَضِّرَ لِإنتشار إنجيلِ خَلاصِ بسهولة العَالَمِ كُلِّهِ.

٤- الفِكرُ الدِّينِيُّ فِي زَمَنِ الرُّومَان: كانَ العَالَمُ آنذَاك مَلِيئًا بأَديَان مُختَلِفَةٍ ذَاتِ مِيزَةٍ مُشتَرَكَةٍ كَانَ قد بَدَأَهَا اليُونَانُ ووردَ ذِكرُها بِغِنًى في "إلياذَةِ هُوميروس"، ألا وهِيَ اِلوُصُولِ إلى الاُلوهيةِ في ان في مقدور الانسان ان يصبح إله او عنده طبيعة إلهية وانه بمقدوره أن يتعطى مع الآلهة حتى وهو في حالة السقوط والخطية. 

وَحدَهَا الدِّيَانَةُ اليَهُودِيَّةُ عَلَّمَتْ أنَّ اللهَ قدوس وبار وأعلى من السموات، كما كَشَفَ الرب عَن بِرِّهِ وذَاتِهِ للآبَاء إبرَاهِيم وإسحَق ويَعقُوب، ولمُوسَى والأنبياء. وَحدَهُ نامُوسُ الرَّبُّ تَكلَّمَ عَن مبدَأِ الخَطِيَّةِ و الخَلاص. كَانَت الأديَانُ السَّائِدَةُ آنذَاك سَطحِيَّةً وساذجَةً إذ وإنْ كانَتْ قد تَكلَّمَتْ عَنِ الشَّرِّ والفَضِيلَةِ، فإنَّهَا لم تَكُنْ تَملِكُ الدَّوَاءَ لِلخَطِيَّةِ ولا الدِّينَامِيكِيَّةَ لِتولِيدِ البِرّ.
كانت تلك الاديان تَتضمَّنُ بَعضَ عَناصِرِ الحَقِّ ولكِن بِشَكلٍ مُشَوَّه. فمثلاً كانوا ينظرون الى "السُّلطانُ الإلَهِيُّ" بأنه مجرد "قَدَرًا"، وحرية "النِّعمَةُ" أصبَحَتْ "إنغِمَاسًا فِي الشَّهوَاتِ"، و"البِرُّ" صار "تَأَقلُمًا" مَعَ الأجواء السائدة. "العِبَادَةُ" أصبَحَت "تَقالِيدَ"، و"الصَّلاةُ" أصبَحَتْ "طَلَبَاتٍ أنَانِيَّةً"، والعَمَلُ الإلَهِيُّ "الخَارِقُ لِلطَّبِيعَةِ" إنحطَّ الى مُستَوَى "الخُرَافَة". نُورُ اللهِ أصبَحَت تَشُوبُهُ الأسَاطِيرُ الخَيَالِيَّةُ والتَّزييفُ المُستَبِيح. أديَان لآلِهَةٍ مُختَلِفَة، إغريقية يُونَانِيَّة كَانَت أم رُومَانِيَّة أم فينيقية، كَانَت قد غَزَتِ العَالَمَ وأصبَحَتْ مِحوَرَ إعجَابِ الأغنِياء ومَلجَأَ الفُقَرَاء.

لذلك فَقدَ مُعظَمُ الجِنسِ البَشَرِيِّ الشُّعُورَ بالبَهجَةِ كَمَا فَقَدَ الأمَلَ بِأَيَّةِ أبَدِيَّةٍ ذَاتِ رَجَاء. فكَانَتِ النَّتِيجَةُ فَوضَى فِي الإيمانِ والقِيَمِ وجَعَلَتِ النَّاسَ ضَائِعِينَ بَينَ الحَقِّ والبَاطِلِ. عندما سأل بيلاطس يسوع "ما هو الحقّ" فإنه كان يعبر عن ضياع وظلمة العالم كله؛ إلى أن جَاءَ الحَقُّ نَفسُهُ، الرَّبُّ يَسُوعُ المَسِيح إبن الله الحيّ الذي شهد في (يو١٨: ٣٧-٣٨) إذ قال: "لِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي". لا أحد يصعد الى السماء إلا بيسوع الذي قَالَ لَتوما:"أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي" (يو١4: 6).